إدارة المشاريع في السعودية بين التحديات والابتكار ورؤية 2030

في العقد الأخير، تحولت إدارة المشاريع الهندسية من كونها مجرد أداة تنظيمية إلى عنصر استراتيجي يقود كفاءة الإنفاق وجودة التنفيذ في المشروعات الحكومية والخاصة على حد سواء.

ومع تسارع مشاريع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 في البنية التحتية والقطاع الصحي والسياحي، أصبحت إدارة المشاريع الحديثة هي “اللغة المشتركة” بين الجهات الحكومية، المقاولين، والمكاتب الاستشارية، لضمان تحقيق مستهدفات الأداء والجودة والجدول الزمني.

التحدي: بين طموح الرؤية وتعقيد التنفيذ فى إدارة المشاريع

رغم تعدد المشاريع العملاقة مثل نيوم والقدية وذا لاين والبحر الأحمر ، تواجه فرق العمل تحديات مستمرة في التنسيق، ضبط التكاليف، وإدارة المخاطر.

وفقًا لتقرير McKinsey Global Institute (2023)، تفشل 60% من المشاريع الكبرى عالميًا في الالتزام بالجدول الزمني أو الميزانية المحددة.

أما في السعودية، فقد أظهرت تقارير PwC Middle East (2024) أن التحدي الأكبر لا يكمن في التمويل، بل في تكامل أنظمة إدارة المشاريع وجودة التنسيق بين الأطراف المشاركة.

وهنا تظهر أهمية تطبيق أنظمة ادارة المشاريع وفق منهجيات معتمدة مثل:

PMBOK (Project Management Body of Knowledge) الصادر عن معهد إدارة المشاريع PMI.
PRINCE2 المستخدم على نطاق واسع في إدارة المشاريع الحكومية.
ISO 21502 الخاص بنظم ادارة المشاريع الاحترافية.

التحول الرقمي يعيد تعريف إدارة المشاريع

مع التوجه الوطني نحو التحول الرقمي الحكومي، أصبحت إدارة المشاريع في السعودية تعتمد بشكل متزايد على أدوات رقمية متكاملة:

Primavera P6 لإدارة الجداول الزمنية الضخمة.
Microsoft Project للمشاريع المتوسطة والصغيرة.
BIM (Building Information Modeling) لتكامل التصميم والتنفيذ والإشراف في بيئة رقمية واحدة.

وفق تقرير وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان (MOMRAH – 2024)، فإن المشاريع التي تطبق أدوات BIM مع أنظمة PM الحديثة تحقق خفضًا في تكاليف التنفيذ بنسبة تتراوح بين 20% إلى 30%، وزيادة في جودة التنسيق بنسبة 35% مقارنة بالمشاريع التقليدية.

هذه النتائج تتوافق مع رؤية الهيئة السعودية للمقاولين (SCA) التي تركز على بناء كفاءات وطنية قادرة على إدارة المشاريع عبر تقنيات رقمية تدعم الشفافية وتحسين اتخاذ القرار.

الحلول الهندسية: من إدارة المهام إلى إدارة القيمة

لم تعد ادارة المشاريع تقتصر على الجدول الزمني والتكاليف فقط، بل أصبحت مفهومًا متكاملًا يدمج الجودة، السلامة، الاستدامة، وإدارة المخاطر.

الشركات الهندسية الرائدة اليوم لا تكتفي بمتابعة التنفيذ، بل تستخدم أنظمة متقدمة لتحليل الأداء في الوقت الفعلي مثل:

Power BI لتحليل مؤشرات الأداء (KPIs).
Oracle Aconex لإدارة المراسلات والمستندات الفنية.
PlanRadar لمتابعة الأعمال الميدانية وتقارير الجودة.

كما أن دمج أنظمة الجودة مثل ISO 9001 وEFQM Excellence Model داخل دورة حياة المشروع، ساهم في بناء مشاريع تحقق أهدافها بكفاءة أعلى وجودة مستدامة.

تقرير PwC Infrastructure 2024 يؤكد أن الشركات التي تطبق إدارة مشاريع رقمية متكاملة تحقق كفاءة إنفاق أعلى بنسبة 25% مقارنة بالممارسات التقليدية.

السعودية تقود التوجه الإقليمي

بفضل المبادرات الحكومية مثل برنامج تفعيل نظم إدارة المشاريع PMO في الجهات الحكومية، ومنصة اعتماد، ونظام إدارة المشاريع الوطني NPMO، أصبحت السعودية من الدول القليلة في المنطقة التي تمتلك إطارًا وطنيًا موحدًا لإدارة المشاريع الحكومية الكبرى.

هذا الإطار لا يحسّن فقط جودة المشاريع، بل يخلق لغة موحدة بين الملاك، المقاولين، والمستشارين، بما يرفع موثوقية القطاع الهندسي بالكامل.

نحو جيل جديد من إدارة المشاريع

في المرحلة القادمة، تتجه الشركات الهندسية السعودية إلى تبنّي مفهوم Project Governance أو “حوكمة المشاريع”، والذي يركز على الشفافية، اتخاذ القرار المبني على البيانات، وتحسين تجربة العميل والمستخدم النهائي.

ويُتوقع، وفقًا لتقرير Deloitte Middle East 2025، أن تعتمد أكثر من 70% من الجهات الحكومية السعودية حلول إدارة المشاريع السحابية خلال السنوات الثلاث القادمة.

إطار إدارة المشاريع بين المعايير الدولية والتطبيق المحلي

تسعى السعودية اليوم إلى مواءمة ممارساتها مع أفضل المعايير الدولية في إدارة المشاريع، بما يضمن تحقيق الاتساق والاحترافية في التنفيذ. وتشير دراسات Chartered Institute of Building (CIOB – 2024) إلى أن تطبيق منهجيات إدارة المشاريع المعتمدة على البيانات (Data-Driven Project Management) يقلل انحراف الجدول الزمني بنسبة تصل إلى 28% مقارنة بالأساليب التقليدية.

وفي السياق السعودي، بدأت العديد من الجهات الهندسية الكبرى مثل شركة ROSHN والهيئة الملكية لمدينة الرياض (RCRC) بتبني نظم موحدة لإدارة المشاريع تعتمد على التكامل بين PMO وBIM وأنظمة تتبع الأداء لضمان مواءمة الأهداف التشغيلية مع مستهدفات رؤية 2030.

هذا الدمج بين الحوكمة، التحول الرقمي، والتحليل التنبؤي (Predictive Analytics) يجعل ادارة المشاريع أكثر قدرة على التنبؤ بالمخاطر وتحسين الكفاءة التشغيلية والاستدامة المالية.

من الجودة التشغيلية إلى الجودة الاستراتيجية

نجاح المشروع لم يعد يُقاس بمدة التنفيذ أو التكلفة فقط، بل بمدى توافقه مع معايير الجودة والاستدامة والأثر الاقتصادي طويل المدى.

ومن هنا تنطلق أهمية المقال التالي في هذه السلسلة، الذي سيتناول:

“أنظمة إدارة الجودة في المشاريع الهندسية بالسعودية: من المواصفة إلى الممارسة”

حيث نناقش كيف أصبحت الجودة الهندسية عنصرًا استراتيجيًا في ضمان كفاءة المشاريع الحكومية والخاصة.

"شاركنا الرؤية.. وساعدنا في نشر ثقافة إدارة المشاريع الذكية نحو تحولٍ هندسي يواكب رؤية 2030."

"المقال السابق"

عندما تصبح الهوية التسويقية أداة هندسية لتطوير القطاع الصحي

في السنوات الأخيرة، بدأنا نرى تحولًا جذريًا في طريقة بناء المستشفيات الحديثة لم تعد المنشأة الطبية مجرد مبنى يُقدَّم فيه العلاج، بل أصبحت تجربة إنسانية واستثمارية متكاملة. لكن المفارقة أن كثيرًا من المنشآت تُصمَّم بمعايير هندسية متقدمة دون أن تنجح في بناء هوية تسويقية تعبّر عنها، فتفقد تميزها رغم جودة تصميمها. هنا يظهر السؤال الجوهري: كيف يمكن للهندسة أن تُسهم في صياغة الهوية التسويقية في القطاع الصحي بحيث تتحول من شكل بصري إلى أداة استراتيجية للتطوير؟